الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}.الظاهر أنه استئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول، وقيل: إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء يتشبث به.وكلمة {لَوْلاَ} هنا للتحضيض، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم.أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب.والنضر بن الحرث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ} إلخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7].ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين.إنزال الملك على صورته وجعله معه صلى الله عليه وسلم يحدث الناس عنه وينذرهم.أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثًا ونذيرًا وجعله محدثًا ونذيرًا يستدعي عدم إنزاله على صورته.وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا} عليه {مَلَكًا} على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم: {لَقُضِىَ الأمر} أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة.وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلى الله عليه وسلم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بجياد ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدًا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا كما قال ابن حجر وناهيك به حافظًا في شيء من كتب الآثار، وإما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب، وظاهر الأخبار وقوعها أيضًا لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيًا ولا إثباتًا، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلًا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندًا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء.وكلمة {ثُمَّ} في قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلًا عن أن يحظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل: إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتاملوا.واعترض بأن قوله سبحانه: {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} عطف على قوله عز وجل: {لَقُضِىَ} ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر.وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك حسبما اقترحوه: إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح وروي هذا عن قتادة، وقيل: إنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 58] فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريًا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الإشكال كما لا يخفى على المتتبع، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وإن الإيمان إيمان يأس.وقال ابن المنير: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك.فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزًا لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى، وقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والاعتراض عليه بأن {لاَ يُنظَرُونَ} يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى، وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن. اهـ..قال ابن عاشور: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} عطف على قوله: {ولو نزّلنا عليك كتابًا}، لأنّ هذا خبر عن تورّكهم وعنادهم، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم، فذلك فُرض بإنزال كتاب عليهم، من السماء فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حكاية لاقتراح منهم آية يصدّقونه بها.وفي سيرة ابن إسحاق أنّ هذا القول واقع، وأنّ من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كَلدة، وعبدة بن عبد يغوث؛ وأبَي ابن خلف، والعاصي بن وائل، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومن معهم، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سل ربّك أن يبعث معك ملكًا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك.فقوله: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} أي لولا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه، لأنّ ذلك هو الذي يتطلّبه المعاند.أمّا نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع، وفسّره قوله تعالى في الآية الأخرى: {لولا أنزل إليه ملك فيكونَ معه نذيرًا} في سورة الفرقان (7).والضمير عائد إلى الذين كفروا وإن كان قاله بعضهم، لأنّ الجميع قائلون بقوله: وموافقون عليه.و{لولا} للتحضيض بمعنى (هلًا).والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم.وضمير {عليه} للنبيء صلى الله عليه وسلم ومعاد الضمير معلوم من المقام، لأنّه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدّم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدّث الناس بها تعيّن أنَّه المراد من الضمير.ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين استأذنه في قتل ابن صيّاد: «إن يكْنه فلن تسلّط عليه وإلاّ يكْنه فلا خير لك في قتلة».يريد من مائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجّال لأنّ الناس كانوا يتحدّثون أنّ ابن صيّاد هو الدجّال.ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه.كما ورد في حديث أبي ذرّ أنّه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: «اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل» وفي حديث سؤال القبر: «فيقال له (أي للمقبور): ما علمك بهذا الرجل» يعني أنّ هذا قولهم فيما بينهم، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكًا.وقد افهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم: {وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} فإنّ (لَوْما) أخت (لولا) في إفادة التحضيض.وقوله: {ولو أنزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون} معناه: لو أنزلنا ملكًا على الصفة التي اقترحوها يكلّمهم لقضي الأمر، أي أمرهم؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق، أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهدَّدهم به.ومعنى: {قُضي} تُمّم، كما دلّ عليه قوله: {ثم لا ينظرون}؛ ذلك أنّه لا تنزل ملائكة غير الذين سخّرهم الله للأمور المعتادة مثللِ الحفظة، وملك الموت، والملك الذي يأتي بالوحي؛ إلاّ ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذّبهم، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر.ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلاّ لإنزال العذاب بهم، كما نزلت الملائكة في قوم لوط.فمشركو مكة لمّا سألوا النبي أن يريهم ملكًا معه ظنّوا مقترحهم تعجيزًا، فأنبأهم الله تعالى بأنّهم اقترحوا أمرًا لو أجيبوا إليه لكان سببًا في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه.ولعلّ حكمة ذلك أنّ الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحقّ بدون هوادة، وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل، كما أشار إليه قوله تعالى: {ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى}، فلذلك حجزهم الله عن الاتّصال بغير العباد المكرّمين الذين شابهن نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية، ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلاّ في أحوال خاصّة، كما قال تعالى عنهم: {وما تتنزّل إلاّ بأمر ربّك}، وكما قال: {ما تنزّل الملائكة إلاّ بالحقّ} فلو أنّ الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولنا جزوهم جزاء العذاب، ألا ترى أنّ الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لمّا لقوا لوطًا قالوا: {يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل}.ولمّا جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشّروه واستأنس بهم {قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربّك} وهو نزول الملائكة؛ فليس للملائكة تصرف في غير ما وجهّوا إليه.فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيء المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون.وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضاليّن، إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدّي لرام كلّ من عُرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيّعًا مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين، وذلك ينافي حرمة النبوة، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة.وأنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قومًا صالحين، وما أرادوا إلاّ خيرًا.ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعًا لهم من حيث لا يشعرون، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين.وسيأتي عند قوله تعالى: {وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه قل إنّ الله قادر على أن ينزلّ آية} زيادة بيان لهذا.ومن المفسّرين من فسّر {قضي الأمر} بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورته الأصبية.وليس هذا بلازم لأنّهم لم يسألوا ذلك.ولا يتوقّف تحقّق ملكيّته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة، بل يكفي أن يروه نازلًا من السماء مثلًا حتى يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم إلى الإسلام، كما يدلّ عليه قوله الآتي: {ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلًا}. اهـ..قال الشعراوي: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)}.ما المَلَك؟ المَلَك جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن به إلا لأن الله الذي آمنا به قال: إن له ملائكة مثلما قال: إن هناك جنًّا، والملائكة من جنس الغيب، والجن مستور عنا. وهؤلاء المنكرون الجاحدون يطلبون نزول مَلَك حتى يؤمنوا. إذن فهم قد عرفوا أن هناك غيبًا وأن فطرتهم الأولى تحمل أثرًا من منطق السماء لكنهم ينكرون، وقولهم بالملَك دليل على أن في أعماقهم رواسب من دين إبراهيم ودين إسماعيل، وبقيت تلك الآثار في النفوس لأنها مسألة لا تمس السيادة، ولو أنزل الحق لهم ملَكًا لما آمنوا أيضًا، فهم مكذبون. ولا يريد الحق أن يطبق عليهم سنته بنزول الآية التي يطلبونها حتى لا ينزل بهم عقابه إن كفروا بها. فلو أنزل الحق عليهم ملَكًا كما يطلبون ثم كفروا لقضي الأمر وأهلكوا بدون إمهال. إذ لو تجلى الملَك لهم وظهر على طبيعته ما تحملته كياناتهم البشرية.
|